الرد على من قال إن صيام الستة من شوال بدعة ! بقلم هشام بن عبدالعزيز الحلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فقد اطلعت على مقال الكاتب جميل يحيى خياط ، في صحيفة المدينة ليوم الجمعة 7 شوال ، في مقاله ( صيام الستة أيام من شوال فيه أقوال ) ، حيث ذهب إلى عدم مشروعية صيام هذه الأيام !
مستدلاً لذلك بأدلة ذكرها وستأتي مناقشتها باختصار في مقالي هذا ، وقد تعجبت من جرأة الكاتب وتسرعه في حكمه ببدعية صيام هذه الأيام ، مع كون الحديث الوارد فيها في صحيح مسلم ! ومع شهرة القول بسنيتها بين عوام الناس أيضاًَ ، فضلاً عن طلاب العلم ، فكان من اللائق لمن يخالف قولاً مشهوراً أن يتروى ويتمهل ، حتى لا يأتي بقول مهجور ، قد رده العلماء من عصور !
بنى الكاتب قوله في عدم مشروعية صيام الست من شوال على عدة أمور :
## أولاً : ذهب إلى تضعيف الحديث الوارد في هذه المسألة مع أن الحديث في صحيح مسلم !! أما حجته في ضعف الحديث في ذاته فهو أمران :
@ الأول :
أن في إسناد الحديث أحد الرواة الضعفاء وهو سعد بن سعيد ، وقد أوهم بكلامه هذا أن الحديث ليس له إسناد إلا من طريق هذا الراوي الضعيف ،
والواقع أن هذا الراوي قد توبع من جماعة من الرواة كلهم ثقات ممن يحتج بحديثهم _إلا الأخير ففيه ضعف _، فقد تابعه :
_ أخوه يحيى بن سعيد . أخرجه النسائي في الكبرى (2/163) . _ وأخوه عبدربه بن سعيد . أخرجه النسائي في الكبرى (2/163) _ وروايته موقوفة _. _ وصفوان بن سليم . أخرجه أبو داود (2،324رقم2433) والنسائي في الكبرى (2/163) وابن خزيمة (3/297) وغيرهم . _ وعثمان بن عمرو الخزاعي . أخرجه النسائي في الكبرى (2/164). فهؤلاء أربعة من الرواة كلهم وافقوا سعد بن سعيد على روايته للحديث عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، فكيف يُضعّف الحديث لأجل راو واحد وهو مُتابعٌ كما رأيت . وقد اعتنى ابن القيم رحمه الله في حاشيته على سنن أبي داود (7/61_68) بالكلام على طرق الحديث وبيان متابعاته وشواهده ، والجواب عن اعتراضات المخالفين له ، وأفرد العلائي الكلام على هذا الحديث بجزء مفرد وهو مطبوع .
## فإن قيل : كيف أخرج مسلم إذاً حديث هذا الراوي وهو متكلم فيه ؟
فجوابه ما قاله ابن القيم وهو :
( أن مسلماً إنما احتج بحديثه لأنه ظهر له أنه لم يخطىء فيه بقرائن ومتابعات ،
ولشواهد دلته على ذلك ،
وإن كان قد عرف خطؤه في غيره ، فكون الرجل يخطىء في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطىء فيه ،
وهكذا حكم كثير من الأحاديث التي خرجاها وفي إسنادها من تكلم فيه من جهة حفظه
فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعا).
## الحجة الثانية عنده في ضعف الحديث في ذاته :
أن مدار الحديث على عمر بن ثابت الأنصاري ،
ولم يروه عن أبي أيوب غيره ، فهو شاذ ، فلا يحتج به ، كما قال .
@@ والجواب عليه من وجهين :
الأول :
هو أن عمر بن ثابت الأنصاري قد وثقه أئمة الحديث ، فمثله الأصل قبول تفرده ،
ولهذا في الصحيحين أحاديث كثيرة قد تفرد بها بعض رواتها ،
ومن أشهر هذه الأحاديث أول حديث في صحيح البخاري
وهو حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) ،
ولهذا قال ابن القيم :
( ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به ، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة ، كحديث الأعمال بالنيات ، تفرد علقمة بن وقاص به ،
وتفرد محمد بن إبراهيم التيمي به عنه ، وتفرد يحيى بن سعيد به عن التيمي ).
الثاني :
أن هذا الحديث لم يتفرد به أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه ،
بل تابعه عليه جمع من الصحابة ، منهم : _ ثوبان . أخرجه أحمد (5/280) وابن ماجه (1/547) وصححه ابن خزيمة (3/298) وابن حبان (8/398) . _ وجابر . أخرجه أحمد (3/308 ، 324، 344) والبيهقي (4/292) وغيرهم . _ وهناك غيرهم من الصحابة ، ولم أذكرهم اختصاراً .
ولهذا ترجم ابن حبان على ذلك في صحيحه
فقال بعد إخراجه حديث عمر بن ثابت :
( ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب ) وذكر حديث ثوبان ).
## فبان من خلال مما سبق
ثبوت الحديث بلاريب ،
ولم يتوقف أحد من أئمة الحديث قديماً وحديثاً في تصحيح الحديث ،
فممن صحح الحديث مسلم والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وآخرون ،
ومن المتأخرين ابن القيم وابن الملقن وابن حجر وغيرهم كثير ،
ولا أعلم أحداً سبق الكاتب في تضعيفه للحديث سوى الحافظ ابن دحية _
فيما نقله عنه ابن الملقن في البدر المنير (5/752)_ ،
وهذا مما يدلك على تسرعه وتهوره في هذه المسألة ،
وأرجو أن تكون له هذا السرعة في رجوعه للحق .
وأما علة الحديث الثانية عنده
فهي :
( أن الرسول صلى الله عليه وسلم -كما نقله ابن القيم (814/2431) -قد نهى عن الصوم بعد انتصاف شعبان حماية لرمضان أن يُخلط به صوم غيره. فكيف بما يضاف إليه بعده..؟!! )
والجواب هو :
أن الذي نهى عن الصوم بعد انتصاف شعبان ، هو الذي شرع لنا الصوم بعد رمضان ،
فلا تعارض الأحاديث ببعضها ،
بل المريد للحق يتطلب الجمع بينها ، وقد أجاب عن هذه المسألة ابن قدامة رحمه الله في المغني (4/439)
فقال : ( ولا يجري هذا مجرى التقديم لرمضان ، لأن يوم الفطر فاصل ).
وأما علة الحديث الثالثة عنده فهي : (
أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو ذاته لم يصم هذه الأيام من شوال.
وهل يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أمته بما فيه معنى القربى إلى الله ثم هو ذاته لا يفعلها.؟!!
ما صامها الرسول عليه الصلاة والسلام ،
ولم يصمها أحد من بعده في عهد الصحابة ولا عهد التابعين حتى قال الإمام مالك ( ثم أورد كلامه ) .
والجواب عليه من وجوه :
الأول : أين الدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون لم يصوموا هذه الأيام ؟
هل جاء بالإسناد الصحيح عنهم أنهم تركوا صيام هذه الأيام ؟! حتى يزعم ما ذكر ، لأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم .
وأما الاحتجاج بقول مالك
( ولم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها .. الخ ) فهذا على حد علمه ،
وإلا قد نقل الترمذي وغيره عن جماعة من السلف أنهم استحبوا صيامها ككعب الأحبار وابن عباس وطاووس والشعبي وميمون بن مهران وبعدهم ابن المبارك والشافعي وأحمد وغيرهم ،
فليس قول مالك بأولى من قول غيره ، ثم إن المثبت مقدم على النافي كما لا يخفى .
الثاني : أن مالكاً رد الحديث بعدم عمل أهل العلم _ والمقصودون هم أهل المدينة _ وما قاله ليس بصحيح ، لأن المعول هو على صحة الحديث ، وقد صح كما سبق ، ثم إن الحديث قد عمل به جماعة من أهل العلم كما سبق .
قال ابن القيم : ( وكون أهل المدينة في زمن مالك لم يعملوا به لا يوجب ترك الأمة كلهم له ، وقد عمل به أحمد والشافعي وابن المبارك وغيرهم ).
وقال النووي في المجموع (6/437) : ( وأما قول مالك ( لم أر أحداً يصومها ) فليس بحجة في الكراهة ، لأن السنة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم ير لم يضر).وبنحوه قال الشوكاني في نيل الأوطار (4/322) .
وقد اعتذر بعض علماء المالكية عن عدم عمل مالك بالحديث بأعذار متعددة :
_ فمنهم من قال بأنه كره صومها لئلا يظن وجوبها ، وقد رد هذه العلة جماعة من أهل العلم كالنووي في شرح مسلم(8/56)وفي المجموع(6/437) والشوكاني في نيل الأوطار(4/322) والصنعاني في سبل السلام (2/167) وغيرهم ، قال الشوكاني في النيل : ( واستدلا ( أي أبوحنيفة ومالك )على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها،وهو باطل لا يليق بعاقل فضلا عن عالم نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة،وأيضا يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها ولا قائل به) .
_ ومنهم من قال بأنه كره صومها خوفاً من إلحاقها برمضان ،
ولذلك نص القرافي في الذخيرة (2/350) وابن شاس في عقد الجواهر الثمينة (1/369) _وهما من المالكية_ على أن مالكاً يستحب صيامها في غير شوال،وإنما عينها الشرع في شوال للخفة على المكلف بسبب قربه من الصوم .
ولذا قال مطرف : كان مالك يصومها في خاصة نفسه !
_ وما أحسن ما قاله أبوعمر ابن عبدالبر في الاستذكار (3/380)
: ( لم يبلغ مالكاً حديث أبي أيوب ، على أنه حديث مدني ! والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه ، والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه
وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة ، وكان - رحمه الله - متحفظاً كثير الاحتياط للدين )
. ثم قال أيضاً : ( وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان - رضي الله عنه - فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله .. ).
وانظر أخي القارئ _ رعاك الله _ إلى إنصاف الإمام ابن عبدالبر _ وهو مالكي _ ،
وكذا فعل مثله أيضاً جماعة من المالكية _ منهم ابن رشد في بداية المجتهد (2/600) _
فإنهم صرحوا بثبوت الحديث وبالعمل به ،
وهذا من الإنصاف الذي يجب أن يتحلى به طلاب العلم جميعاً ، فهل يكون الكاتب ( جميل خياط ) منصفاً مثلهم ؟!
أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه ، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه : هشام بن عبدالعزيز الحلاف
المحاضر بقسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فقد اطلعت على مقال الكاتب جميل يحيى خياط ، في صحيفة المدينة ليوم الجمعة 7 شوال ، في مقاله ( صيام الستة أيام من شوال فيه أقوال ) ، حيث ذهب إلى عدم مشروعية صيام هذه الأيام !
مستدلاً لذلك بأدلة ذكرها وستأتي مناقشتها باختصار في مقالي هذا ، وقد تعجبت من جرأة الكاتب وتسرعه في حكمه ببدعية صيام هذه الأيام ، مع كون الحديث الوارد فيها في صحيح مسلم ! ومع شهرة القول بسنيتها بين عوام الناس أيضاًَ ، فضلاً عن طلاب العلم ، فكان من اللائق لمن يخالف قولاً مشهوراً أن يتروى ويتمهل ، حتى لا يأتي بقول مهجور ، قد رده العلماء من عصور !
بنى الكاتب قوله في عدم مشروعية صيام الست من شوال على عدة أمور :
## أولاً : ذهب إلى تضعيف الحديث الوارد في هذه المسألة مع أن الحديث في صحيح مسلم !! أما حجته في ضعف الحديث في ذاته فهو أمران :
@ الأول :
أن في إسناد الحديث أحد الرواة الضعفاء وهو سعد بن سعيد ، وقد أوهم بكلامه هذا أن الحديث ليس له إسناد إلا من طريق هذا الراوي الضعيف ،
والواقع أن هذا الراوي قد توبع من جماعة من الرواة كلهم ثقات ممن يحتج بحديثهم _إلا الأخير ففيه ضعف _، فقد تابعه :
_ أخوه يحيى بن سعيد . أخرجه النسائي في الكبرى (2/163) . _ وأخوه عبدربه بن سعيد . أخرجه النسائي في الكبرى (2/163) _ وروايته موقوفة _. _ وصفوان بن سليم . أخرجه أبو داود (2،324رقم2433) والنسائي في الكبرى (2/163) وابن خزيمة (3/297) وغيرهم . _ وعثمان بن عمرو الخزاعي . أخرجه النسائي في الكبرى (2/164). فهؤلاء أربعة من الرواة كلهم وافقوا سعد بن سعيد على روايته للحديث عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، فكيف يُضعّف الحديث لأجل راو واحد وهو مُتابعٌ كما رأيت . وقد اعتنى ابن القيم رحمه الله في حاشيته على سنن أبي داود (7/61_68) بالكلام على طرق الحديث وبيان متابعاته وشواهده ، والجواب عن اعتراضات المخالفين له ، وأفرد العلائي الكلام على هذا الحديث بجزء مفرد وهو مطبوع .
## فإن قيل : كيف أخرج مسلم إذاً حديث هذا الراوي وهو متكلم فيه ؟
فجوابه ما قاله ابن القيم وهو :
( أن مسلماً إنما احتج بحديثه لأنه ظهر له أنه لم يخطىء فيه بقرائن ومتابعات ،
ولشواهد دلته على ذلك ،
وإن كان قد عرف خطؤه في غيره ، فكون الرجل يخطىء في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطىء فيه ،
وهكذا حكم كثير من الأحاديث التي خرجاها وفي إسنادها من تكلم فيه من جهة حفظه
فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعا).
## الحجة الثانية عنده في ضعف الحديث في ذاته :
أن مدار الحديث على عمر بن ثابت الأنصاري ،
ولم يروه عن أبي أيوب غيره ، فهو شاذ ، فلا يحتج به ، كما قال .
@@ والجواب عليه من وجهين :
الأول :
هو أن عمر بن ثابت الأنصاري قد وثقه أئمة الحديث ، فمثله الأصل قبول تفرده ،
ولهذا في الصحيحين أحاديث كثيرة قد تفرد بها بعض رواتها ،
ومن أشهر هذه الأحاديث أول حديث في صحيح البخاري
وهو حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) ،
ولهذا قال ابن القيم :
( ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به ، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة ، كحديث الأعمال بالنيات ، تفرد علقمة بن وقاص به ،
وتفرد محمد بن إبراهيم التيمي به عنه ، وتفرد يحيى بن سعيد به عن التيمي ).
الثاني :
أن هذا الحديث لم يتفرد به أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه ،
بل تابعه عليه جمع من الصحابة ، منهم : _ ثوبان . أخرجه أحمد (5/280) وابن ماجه (1/547) وصححه ابن خزيمة (3/298) وابن حبان (8/398) . _ وجابر . أخرجه أحمد (3/308 ، 324، 344) والبيهقي (4/292) وغيرهم . _ وهناك غيرهم من الصحابة ، ولم أذكرهم اختصاراً .
ولهذا ترجم ابن حبان على ذلك في صحيحه
فقال بعد إخراجه حديث عمر بن ثابت :
( ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب ) وذكر حديث ثوبان ).
## فبان من خلال مما سبق
ثبوت الحديث بلاريب ،
ولم يتوقف أحد من أئمة الحديث قديماً وحديثاً في تصحيح الحديث ،
فممن صحح الحديث مسلم والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وآخرون ،
ومن المتأخرين ابن القيم وابن الملقن وابن حجر وغيرهم كثير ،
ولا أعلم أحداً سبق الكاتب في تضعيفه للحديث سوى الحافظ ابن دحية _
فيما نقله عنه ابن الملقن في البدر المنير (5/752)_ ،
وهذا مما يدلك على تسرعه وتهوره في هذه المسألة ،
وأرجو أن تكون له هذا السرعة في رجوعه للحق .
وأما علة الحديث الثانية عنده
فهي :
( أن الرسول صلى الله عليه وسلم -كما نقله ابن القيم (814/2431) -قد نهى عن الصوم بعد انتصاف شعبان حماية لرمضان أن يُخلط به صوم غيره. فكيف بما يضاف إليه بعده..؟!! )
والجواب هو :
أن الذي نهى عن الصوم بعد انتصاف شعبان ، هو الذي شرع لنا الصوم بعد رمضان ،
فلا تعارض الأحاديث ببعضها ،
بل المريد للحق يتطلب الجمع بينها ، وقد أجاب عن هذه المسألة ابن قدامة رحمه الله في المغني (4/439)
فقال : ( ولا يجري هذا مجرى التقديم لرمضان ، لأن يوم الفطر فاصل ).
وأما علة الحديث الثالثة عنده فهي : (
أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو ذاته لم يصم هذه الأيام من شوال.
وهل يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام أمته بما فيه معنى القربى إلى الله ثم هو ذاته لا يفعلها.؟!!
ما صامها الرسول عليه الصلاة والسلام ،
ولم يصمها أحد من بعده في عهد الصحابة ولا عهد التابعين حتى قال الإمام مالك ( ثم أورد كلامه ) .
والجواب عليه من وجوه :
الأول : أين الدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون لم يصوموا هذه الأيام ؟
هل جاء بالإسناد الصحيح عنهم أنهم تركوا صيام هذه الأيام ؟! حتى يزعم ما ذكر ، لأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم .
وأما الاحتجاج بقول مالك
( ولم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها .. الخ ) فهذا على حد علمه ،
وإلا قد نقل الترمذي وغيره عن جماعة من السلف أنهم استحبوا صيامها ككعب الأحبار وابن عباس وطاووس والشعبي وميمون بن مهران وبعدهم ابن المبارك والشافعي وأحمد وغيرهم ،
فليس قول مالك بأولى من قول غيره ، ثم إن المثبت مقدم على النافي كما لا يخفى .
الثاني : أن مالكاً رد الحديث بعدم عمل أهل العلم _ والمقصودون هم أهل المدينة _ وما قاله ليس بصحيح ، لأن المعول هو على صحة الحديث ، وقد صح كما سبق ، ثم إن الحديث قد عمل به جماعة من أهل العلم كما سبق .
قال ابن القيم : ( وكون أهل المدينة في زمن مالك لم يعملوا به لا يوجب ترك الأمة كلهم له ، وقد عمل به أحمد والشافعي وابن المبارك وغيرهم ).
وقال النووي في المجموع (6/437) : ( وأما قول مالك ( لم أر أحداً يصومها ) فليس بحجة في الكراهة ، لأن السنة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم ير لم يضر).وبنحوه قال الشوكاني في نيل الأوطار (4/322) .
وقد اعتذر بعض علماء المالكية عن عدم عمل مالك بالحديث بأعذار متعددة :
_ فمنهم من قال بأنه كره صومها لئلا يظن وجوبها ، وقد رد هذه العلة جماعة من أهل العلم كالنووي في شرح مسلم(8/56)وفي المجموع(6/437) والشوكاني في نيل الأوطار(4/322) والصنعاني في سبل السلام (2/167) وغيرهم ، قال الشوكاني في النيل : ( واستدلا ( أي أبوحنيفة ومالك )على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها،وهو باطل لا يليق بعاقل فضلا عن عالم نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة،وأيضا يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها ولا قائل به) .
_ ومنهم من قال بأنه كره صومها خوفاً من إلحاقها برمضان ،
ولذلك نص القرافي في الذخيرة (2/350) وابن شاس في عقد الجواهر الثمينة (1/369) _وهما من المالكية_ على أن مالكاً يستحب صيامها في غير شوال،وإنما عينها الشرع في شوال للخفة على المكلف بسبب قربه من الصوم .
ولذا قال مطرف : كان مالك يصومها في خاصة نفسه !
_ وما أحسن ما قاله أبوعمر ابن عبدالبر في الاستذكار (3/380)
: ( لم يبلغ مالكاً حديث أبي أيوب ، على أنه حديث مدني ! والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه ، والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه
وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة ، وكان - رحمه الله - متحفظاً كثير الاحتياط للدين )
. ثم قال أيضاً : ( وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان - رضي الله عنه - فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله .. ).
وانظر أخي القارئ _ رعاك الله _ إلى إنصاف الإمام ابن عبدالبر _ وهو مالكي _ ،
وكذا فعل مثله أيضاً جماعة من المالكية _ منهم ابن رشد في بداية المجتهد (2/600) _
فإنهم صرحوا بثبوت الحديث وبالعمل به ،
وهذا من الإنصاف الذي يجب أن يتحلى به طلاب العلم جميعاً ، فهل يكون الكاتب ( جميل خياط ) منصفاً مثلهم ؟!
أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه ، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه : هشام بن عبدالعزيز الحلاف
المحاضر بقسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق